من الثابت ان تعدد الثقافات في بيئة العمل هي احد اهم عوامل نجاح العمل و خلق بيئة صحية خالية من التعصب و العنصرية و ازدراء الاخرين، لكن يبقى السؤال هل جميع الافراد قادرون على التعايش في بيئة عمل متعددة الثقافات، لقد دأبت المؤسسات الكبرى على توظيف الافراد الذين لديهم نسبة عالية من الذكاء التقليدي في باديء الأمر ثم نشأ مصلطح الذكاء العاطفي وما يشمله من قدرة الفرد على فهم مشاعر الأخرين و التعايش معهم، والأن ظهر مصطلح الذكاء الثقافي … فما هو الذكاء الثقافي وما مدي أهميته بالنسبة لبيئة العمل، وما هي سبل قياسه و تطويره.
الذكاء الثقافي هو القدرة على التعامل و التفاعل مع الثقافات المختلفة بصورة فاعلة ومؤثرة، و تحقيق ذلك لا يعتمد فقط على فهم ثقافات الأخرين بل هو يبدأ بفهم ثقافتنا أولاً وادراك ما بها من معتقدات و أفكار قد تكون عائقا أمام تقبل ثقافة الأخرين والتفاعل معها، وهذا لا يعني التخلي عن عاداتنا و معتقداتنا، فالافراد الذين ليس لهم أفكار و معتقدات وعادات راسخة هم دائما أشخاص لا نستطيع أن نثق بهم ولا يتمسكون بأي مبدأ. ولكن لابد من التأكيد على أن أي ثقافة تحتوى على بعض الأفكار والعادات الثابتة التي لا يمكن الاستغناء عنها وكذلك تحتوي على كثير من الافكار و العادات الثانوية التي قد يتعامل معها اصحابها بقدر اكبر من المرونة، ومن ثم التقاعل بصورة اكبر فاعلية و تأثيراً مع الحضارات الاخرى. فعلى سبيل المثال الرجل يسبق المرأة في كثير من المجتمات الشرقية كاحد وسائل التعبير عن حمايته لها، بينما تسبق المرأة الرجل في المجتمات الغربية من أجل ابداء الاحترام و التقدير لها، فهل ترك احد اصحاب الثقافتين عند التعامل مع الاخر عادته يعد تغيير لهوييته؟ بالتأكيد لا، بل أن الدراسات الحديثة أثبتت أن تعبيرات الوجه عن المشاعر المختلفة قد تختلف من مجتمع لأخر تبعاً لتغير الثقافات، أي أن نفس تعبيرات الوجه قد تكون تعبيرا عن مشاعر مختلفة نتيجة لاختلاف الثقافات و المجتمعات. إن الأساس في تطوير مهاراتنا الثقافية عند التعامل مع الاخرين يشمل فهم ما يقف وراء أفعالهم و مشاعرهم كما يشمل فهم ثقفاتنا و تحديد ما هو ضروي و أساسي من معتقدات وعادات لتحديد هويتنا، وما هو ثانوي يمكن التمسك به أو تغييره بصروة أكثر مرونة. فتحقيق التوازن بين الثابت و المتغيير في عاداتنا و معتقداتنا هو أساس تطوير ذكاءنا الثقافي، والمبالغة في تقديس ما هو ليس بالضروري من معتقادتنا و عادتنا يمثل عائقاً امام التفاعل مع ثقافات الأخرين.
بالتاكيد نظرا لتعدد الثقافات داخل بيئة العمل و انتشار مفاهيم العولمة وتحول العالم إلى قرية صغيرة يتفاعل جميع حضاراتها بعضها مع بعض فإن الذكاء الثقافي أصبح أحد أهم عوامل النجاح في بيئة العمل، وبدأت كبرى المؤسسات بالفعل تخصيص المزيد من الدراسة والبحث و التطوير في هذا المجال.
إذاً فالذكاء الثقافي يقوم على عدة عوامل تبدأ بفهم ماهية ثقافة الفرد وما هو ضروري بالنسبة لها من مفاهيم و عادات وما الذي قد يعوق تفاعلنا مع الحضارات الأخرى، ثم فهم ثقافات الأخرين مع وجود مرونة لدى الفرد في تغيير عاداته و أفكاره إلى بعض عادات و أفكار الثقافات الأخرى وإن بدت غريبة في باديء الأمر مع الحفاظ على جوهر ماهيته و خصوصية ثقافته بعدم التخلي عن ما هو أساسي و ضروري لها مع عدم التوسع في جعل كل شيء أساسي و ضروري، كما أن فهم سبب وما وراء سلوك وعادات الثقافات الاخرى من افكار ومشاعر هو ضروري للتفاعل مع تلك الثقافات.
يمثل الذكاء الثقافي بالنسبة لبيئة العمل أهمية كبيرة و يساعد بصورة فاعلة على تحقيق عائد اقتصادي أكبر بالنسبة للمؤسسات، أثبتت الدرسات الحديثة أن غياب التعددية في القوى العاملة للمؤسسات وعدم الوعي الثقافي بالنسبة لثقافات الاخرين يؤثر سلبيا على انتاجية المؤسسات بنسبة قد تتجاوز 30% في بعض الأحيان. فغياب الذكاء الثقافي يؤدي إلى فقدان الثقة، ازدراء الأخرين، التعصب و التكتلات، كما أنها تؤدي إلى ارتفاع معدلات الغياب وكثيراً من الأحيان انهاء علاقة العمل وهروب الكفاءات إلى مكان أخر يشعرون فيه بمزيد من التقدير، كما أن التقارير الحديثة اثبتت أيضاً هبوط كبير بمعدلات الذاكرة القريبة و الابتكار لدى الموظفين الذين يعانون من تجاهل وعدم مرونة رؤسائهم مع متطلبات ثقافتهم، إذاً فما هو سبيل المؤسسات إلى الارتقاء بمستوى الذكاء الثقافي.
أول شيء بالنسبة لتحقيقق الذكاء الثقافي داخل المؤسسات هو بناء بيئة عمل متعددة الثقافات مع دراسة معوقات التفاعل مع الثقافات الاخرى و التنبيه على وسائل تفاديها و خلق نوع من التواصل بين اصحاب الثقافات المختلفة بما يحقق نوع من فهم الدوافع وراء عادات وتقاليد الأخرين من مشاعر و أفكار.
والأن يأتي السؤال الصعب وهو طريقة قياس الذكاء الثقافي داخل المؤسسات، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق اعطاء الفرصة للعديد من المناقشات حول المعتقدات و العادات الثقافية للموظفين. كما يجب الانتباه إلى اللهجة التي تسود لغة الموظفين فهي تعكس مدى رضاهم و سعادتهم أو انهم يشعرون بنوع من الاغتراب داخل بيئة العمل وعدم التقدير لثقافاتهم ومعتقادتهم. واضافة إلى ذلك فهناك العديد من الاختبارات السيكومترية التي تعمل على قياس مدى قابلية الافراد للتفاعل مع ثقافات متعددة منها اختبارات تقيس مدى قدرتهم على حل المشاكل المعقدة التي تتعلق بثقافات اخرى ومنها ما يقيس مدى قابلية السمات الشخصية للافراد في التفاعل مع بيئة عمل متعددة الثقافات ومنها التي تقيس الذكاء العاطفى للأفراد نظرا لعلاقتها الوثيقة بالذكاء الاجتماعي و غيرها.
أما عن سبل الحل فتتمثل في توفير الفرصة للموظفين من اجل التعبير عن ثقافتهم و مشاعرهم تجاه عاداتهم و تقاليدهم من خلال ورش عمل خاصة بذلك واختيار قادة قادرون على نقل مهارات الذكاء الثقافي لمرؤسيهم واعتبار الذكاء الثقافي جزءا من التخطيط الاستراتيجي الخاص بالمؤسسات.
اترك تعليقًا