هل تعلم أن مصطلح التنمية البشرية بدأ استخدامه بسبب التجربة الألمانية الفريدة من نوعها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؟ … وهل تعلم أن نساء ألمانيا تحديداً هن السبب المباشر فى ظهور هذا المصطلح بشكل واضح فى البداية ثم تطور الأمر بعد ذلك ؟!…
بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية واستسلامها في 8 مايو 1945، كانت الأوضاع الاقتصادية والمالية كارثية نتيجة للأضرار الجسيمة التي ألحقتها الحرب ببنيتها الأساسية وبمرافقها الاقتصادية، و نتيجة للديون والمبالغ الطائلة التي تعهدت ألمانيا بدفعها كتعويضات لدول الحلفاء المنتصرة.
دُمِّر ثُلثا البلاد بالكامل، خاصة المدن الألمانية الكبرى التى سويت أكثر من نصف مساكنها بالأرض، و فقدت ألمانيا 3.3 مليون عسكري، و 3.8 مليون مدني، و بلغ عدد أسرى الحرب الألمان نحو 11 مليون أسير، بقي 6 ملايين منهم في المعسكرات السوفييتية حتى عام 1948، وأرسلت قوات الحلفاء عدة ملايين من الأسرى الآخرين إلى كل من فرنسا و بولونيا و إنجلترا للعمل بالسخرة من أجل إعادة بناء هذه الدول وإصلاح ما دمرته جيوش النازية.
كان التحدي الأول الذى جابهته ألمانيا المدمرة والمحتلة بعد الحرب هو نقص الرجال (عدد سكان ألمانيا بعد الحرب 27 مليون، 20 مليون منهم نساء). و ينظر الألمان بفخر كبير للدور الذى اضطلعت به المرأة الألمانية في هذه الفترة الصعبة التي برزت فيها ظاهرة “نساء الأنقاض” … فقد وجدت النساء الألمانيات أنفسهن مع أطفالهن بلا مأوى و لا مأكل و لا مشرب، لكنهن شمرن عن سواعدهن، وكانت مهمتهن الأولى هي استخراج الحجارة السليمة من بين الأنقاض لإعادة استخدامها مرة أخرى في البناء!. وإخلاء الأبنية و الشوارع من الأنقاض و نقلها إلى خارج المدن!. وكذلك العمل في المصانع التي لم تضرر من القصف. وعاش الألمان ثلاث سنوات بعد الحرب في ظروف تشبه المجاعة مع تقنين الغذاء وانعدام الرعاية الطبية بعد حل الصليب الأحمر الألماني. و نقص المحروقات للتدفئة في الشتاء القارس. تضاعفت معدلات الوفيات عما كانت عليه أثناء الحرب نفسها!! رغم ذلك تضافرت جهود النساء مع اللاجئين الوافدين من عدة بلدان في أوروبا الشرقية و تركيا لإزالة آثار الدمار و إعادة بناء ما يمكن بناؤه.
خلال السنوات الاولى التي أعقبت الحرب فقدت العملة الألمانية (المارك) قيمتها ومكانتها كعملة متداولة و كان التعامل يجري غالبا” بعملات دول الحلفاء المكلفة بإدارة المناطق اﻷربعة التي قسمت إليها الدولة الألمانية بعد استسلامها عام 1945 . وهذه الدول هي: الإتحاد السوفيتي- الولايات المتحدة- بريطانيا- فرنسا. وفي شهر مايو من عام 1948 قررت الدول الغربية توحيد المناطق الثلاث التي كانت تحت إدارتها لتشكل ما سُمي (ألمانيا الغربية). أما المنطقة التي كانت خاضعة لسيطرة الإتحاد السوفيتي فأصبحت منذ عام 1949 (ألمانيا الشرقية).
وقد أدى اختلاف الظروف والتطورات السياسية في كل من الألمانيتين إلى اختلاف أوضاعهما الاقتصادية. و فيما لم تفلح ألمانيا الشرقية، فإن اقتصاد ألمانيا الغربية أصبح وخلال فترة قصيرة لا تتعدى عشرة سنوات من أكثر اقتصاديات العالم تطورا و ازدهاراً.
ويرى الخبراء أن العامل الرئيسي الذي أدى الى تعثر التقدم الإقتصادي في ألمانيا الشرقية، كان السياسة الاقتصادية المركزة التي أنتهجتها بإيحاء من الإتحاد السوفيتي الذي كان يجد في وجود الفقر والبطالة تربة خصبة لإنتشار الشيوعية، إضافة الى عوامل أخرى أهمها: إقدام الإتحاد السوفيتي على نقل العديد من المصانع ووسائل الانتاج الصناعية من ألمانيا الشرقية الى المناطق السوفيتية ليعوض نفسه عن الخسائر التي لحقت به أثناء الحرب.
بالإضافة الى أن رفض الإتحاد السوفيتي الإنضمام الى مشروع (مارشال) حرم ألمانيا الشرقية من المساعدات المالية الأميركية التي تمتعت بها كل دول أوروبا الغربية.
ومشروع مارشال هو مشروع اقتصادي وضعه الجنرال جورج مارشال لإعادة إعمار أوروبا بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية. الجنرال جورج مارشال كان رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية و أصبح بعدها وزير الخارجية الأميركي في يناير عام 1947. أعلن مارشال بنفسه هذا المشروع في 5 يونيو1947 في خطاب أمام جامعة هارفرد، وشٌكلت حينها هيئة أُطلق عليها “منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي” للإشراف على إنفاق 12.4 مليار دولار أميركي لإعادة إعمار و ترميم و توسيع البنية التحتية، وإعادة بناء وتشغيل الاقتصاد و تطوير المشاريع الصناعية الأوربية. (حصلت ألمانيا الغربية منها على مليار دولار). ولكن الأساس هو الإنسان وليس المساعدات المالية، والعنصر الفارق في التنمية لم يكن المال ولكن البشر، فبالإضافة الى تلك المساعدات الامريكية، كان العامل البشري هو العامل الحاسم وبدونه ما كان هناك نهضة، فقد أظهر الألمان في ألمانيا الغربية رغم انكسارهم في الحرب و وجودهم تحت احتلال فعلي رغبة و إصراراً كبيرين على العمل الشاق وفقا لنظام والتزام صارم. وسرعان ما استعادت ألمانيا الغربية الكثير من قوتها العاملة المؤهلة من خلال اﻷسرى العائدين لبلادهم، فضلاً عن علماء ألمانيا و مهندسيها و أساتذة الجامعات فيها و خيرة أبنائها الهاربين من النظام النازي الذين قرروا العودة إلى بلادهم من جديد للمساهمة فى عملية إعادة البناء. ويشير المؤرخون الألمان إلى روح التضحية و العمل الجماعي التي تميز بها الألمان فى هذه المرحلة، فقد تراجعت التوترات الاجتماعية بين اللاجئين من أصول ألمانية و بين الألمان أنفسهم و انخرط الجميع فى بناء الدولة الجديدة. كما ساهمت النقابات في ذلك بعدم المبالغة في مطالبها لزيادة الرواتب و تراجعت المطالب الفئوية أمام تحدي بناء ألمانيا الجديدة.
لقد تمكن الألمان الغربيون خلال خمس سنوات فقط من العمل الدؤوب و الشاق من التغلب على تحديات جمة ووضعوا بلادهم المدمرة على طريق الانطلاق الاقتصادي. نجح لودفيج إيرهارد وزير الاقتصاد في حكومة المستشار كونراد اديناور و أبو المعجزة الاقتصادية الألمانية في فرض سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي التي أصبحت نموذجاً ألمانياً يُحتذى به، حيث تمكن من المحافظة على عناصر السوق الحرة و آلياتها التي تحدد الأسعار وفقاً للمنافسة والعرض والطلب مع وجود دور للدولة كراع للمصلحة العامة وللبعد الاجتماعي تتدخل لمنع كل أشكال الاحتكار.
و بفضل المعجزة الاقتصادية تحول المجتمع الألماني إلى مجتمع حديث منتج خدمي استهلاكي، حيث نَمَت معه الطبقة الوسطى وارتفع فيه مستوى الطبقات الدنيا من فلاحين و مهنيين، كما تآكلت فيه الحدود الصارمة بينهما وكذلك تضاءلت الفروقات بين المدينة والقرية. وتكون أساس اجتماعي متين يسمح بالتعددية السياسية و إقامة نظام ديمقراطي على أسس سليمة، على عكس ما كان يتبناه بعض سياسيي ألمانيا في مرحلة بعد الحرب من ضرورة فرض سياسة اقتصادية مركزية لإنقاذ البلاد.
وفقا لهذا النظام الناجح فإن كل ألماني هو عنصر فاعل في المجتمع، مسؤول عن نفسه و تجاه الآخرين و تتدخل الدولة لمساعدته فقط حين يعجز هو عن مساعدة نفسه. وبعد إعادة توحيد شطري ألمانيا عام 1990 تمكن اقتصاد ألمانيا الغربية القوي من إعادة بناء دولة بكاملها في الشطر الشرقي. و كشف ألمان الشرق عن معدنهم الحقيقي و انخرطوا في العمل للحاق بركب التطور الاقتصادي و الصناعي في الشطر الغربي.
وفي الوقت الراهن يعتبر اقتصاد ألمانيا خامس أكبر اقتصاد في العالم و أهم اقتصاديات الاتحاد الأوروبي. كذلك تقف ألمانيا في طليعة الدول المصدرة في العالم. والأهم من ذلك أن العامل الألماني هو أيقونة الجودة في كثير من أنحاء العالم بحيث أنك من الطبيعي جداً أن تسمع جملة هذه صناعة ألمانية والتي تزيل أي نوع من أنواع الشكوك في جودة المنتج وما هذا إلا بسبب العنصر البشرى الذى تسمو به الأمم وترتفع به الكيانات وتنهض عليه كل أشكال الحياة.
اترك تعليقًا